هذا ما فعلته الصين لتصبح عملاقاً اقتصادياً


تشهد الصين، منذ عقود تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني، نمواً مذهلاً جعلها ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، متجاوزة اليابان وألمانيا، كما جعلت الإصلاحات الاقتصادية البلاد مركزاً للصناعة في العالم، وأكبر دولة تجارية على الإطلاق، وانتشلت مئات ملايين الفقراء من حالتهم، لكن رغم التطور المتسارع فإن الصين تواجه تحديات كبيرة.

ماذا فعل الحزب الشيوعي الصيني؟

بعد وفاة القائد الصيني "ماو تسي تونغ" عام ١٩٧٦، أصبح "دينغ شياو بينغ" (جوهر الجيل الثاني من القيادة الصينية) الزعيم الأول للصين.

دفع "دينغ" بإصلاحات جبارة أعادت هيكلة اقتصاد الصين، وجعلتها منفتحة على الخارج، اعتباراً من العام ١٩٧٨، وتضمنت تحديثات في أربعة مجالات: الزراعة، والصناعة، والعلوم والتكنولوجيا، والدفاع.

كانت الصين وقتها في المرتبة التاسعة عالمياً وفق تصنيف الناتج المحلي الإجمالي بـ ٢١٤ مليار دولار، لتقفز إلى المرتبة الثانية عام ٢٠١٣ (بعد ٣٥ عاماً) بناتج محلي إجمالي ٩,٢ تريليون دولار.

أدت الإصلاحات إلى زيادة دور آليات السوق وخفض سيطرة الحكومة على الاقتصاد. وشملت إلغاء المزارع الجماعية، وفتح الصين أمام الاستثمارات الأجنبية، وتشجيع ريادة الأعمال التجارية، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة، وإدخال حوافز سوقية في الشركات المملوكة من قبل الدولة.

علاوة على ذلك، بدأت الصين بالمشاركة في الاقتصاد العالمي وانضمت إلى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي عام ١٩٨٠.

دخلت قيادة الجيل الثالث الصينية، مطلع التسعينيات، مع "جيانغ زيمين" مطبقة إصلاحات اقتصادية كبيرة، منها خصخصة وتصفية معظم الشركات المملوكة للدولة، باستثناء الاحتكارات الكبيرة، مما وسع دور القطاع الخاص في الاقتصاد، كما تم خفض الحواجز التجارية، وإنهاء تخطيط الدولة، واستحداث المنافسة، وإلغاء القيود التنظيمية، وفرض ضرائب جديدة، وإصلاح النظام المصرفي وإدارته بكفالة، وإزاحة الطبقة العسكرية عن الاقتصاد.

بالإضافة إلى ذلك، قاد "جيانغ زيمين" الصين للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية عام ٢٠٠١، لكنه استقال عام ٢٠٠٢ من منصبه كأمين عام للحزب الشيوعي، وبدأ بذلك دخول الجيل الرابع من القيادة مع الرئيس "هو جينتاو"، الذي حاول مع إدارته خفض الفوارق في الدخل بين المدن الساحلية والريف، التي سببها النمو الضخم للصين. فتمت زيادة المعونات، وإلغاء الضرائب الزراعية، وإبطاء خصخصة أصول الدولة، وعززت الرفاه الاجتماعي.

شهدت الصين عام ٢٠٠٥ نمواً اقتصادياً غير مسبوق يرجع في الأساس إلى ازدهار الصادرات، التي زادت بنسبة هائلة ٢٧٪ بين عامي ٢٠٠٢ - ٢٠٠٨، وارتفاع الاستهلاك الخاص، والصناعات التحويلية، والاستثمارات الضخمة. 

ومع ذلك، أجبرت الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨ السلطات الصينية على تبني سياسة نقدية فضفاضة وإطلاق حزمة تحفيز قوية بقيمة ٥٨٥ مليار دولار، أدت إلى تعزيز النمو عبر المشاريع الاستثمارية الضخمة، وسط موقف مالي قوي للحكومة الصينية، وبالتالي نجت البلاد من الأزمة الاقتصادية بشكل أفضل من الدول الأخرى، وخرجت بناتج محلي إجمالي مرتفع بأكثر من ٩٪ ونسبة تضخم منخفضة.

ومع ذلك شكل الخروج من الأزمة تخلخلات في الاقتصاد الكلي، وخفض من معدل الاستهلاك، لكن وصول الجيل الخامس إلى السلطة عام ٢٠١٢ مع "شي جين بينغ" كشف عن تدابير اقتصادية تهدف إلى تعزيز توازن النموذج الاقتصادي على حساب تسريع عملية النمو، عبر خطة إصلاح طموحة في محاولة لتغيير الأسس الاقتصادية للبلاد وضمان نموذج نمو مستدام، أي تَحمُّل معدلات نمو أقل لدفع الإصلاحات الاقتصادية إلى الأمام.

صاغ "شي جين بينغ" مصطلح "الحلم الصيني" كمساهمة له في أيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني، تأكيداً على سعادة الناس وفكرة الصين القوية، كما عمل على الإبطاء من الاستثمار في الصناعة والبنية التحتية مع تحول الأمة من نموذج نمو مدفوع بالاستثمار إلى نموذج يركز على طلب المستهلكين.

أكبر دولة تجارية في العالم

يشكل الميزان التجاري في الصين فائضاً منذ العام ١٩٩٤، كما تجاوزت الصين الولايات المتحدة كأكبر دولة تجارية في العالم عام ٢٠١٣، وهي تمتلك احتياطي من النقد الأجنبي يبلغ ٤ تريليون دولار عام ٢٠١٤.

استفادت الصين من التدفقات القوية للاستثمار الأجنبي المباشر، بأرقام قياسية بلغت ١١٨ مليار دولار عام ٢٠١٣، وبذلك أصبحت ثاني أكبر متلق للاستثمار الأجنبي في العالم. وتعتبر هونغ كونغ وسنغافورة واليابان وتايوان والولايات المتحدة من أكثر الدول استثماراً في الصين.

علاوة على ذلك، شاركت الصين في العديد من الاتفاقيات التجارية الثنائية والمتعددة الأطراف التي فتحت أسواق جديدة لمنتجاتها.

عام ٢٠٠٣، وقعت الصين اتفاقية شراكة اقتصادية وثيقة مع هونغ كونغ وماكاو. كما دخلت اتفاقية التجارة الحرة (FTA) بين الصين ودول الآسيان حيز التنفيذ مطلع العام ٢٠١٠، والتي خلقت ثالث أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي. كما أنشأت الصين اتفاقية تجارة حرة مع دول مثل: أستراليا وتشيلي وكوستاريكا وكوريا وباكستان والبيرو ونيوزيلندا وسنغافورة، إلى جانب اتفاقيات تجارة حرة أخرى تخضع للتفاوض مع دول مجلس التعاون الخليجي واليابان والنرويج وسريلانكا.

وتعتبر الأجهزة الإلكترونية والآليات والتجهيزات ٥٥٪ من مجموعة الصادرات الصينية، فيما تشكل الملابس ١٣٪، ومواد البناء والمعدات ٧٪.

المبيعات إلى آسيا تمثل أكثر من ٤٠٪ من إجمالي صادرات الصين، أما أمريكا الشمالية تمثل ٢٤٪ وأوروبا ٢٣٪، ورغم ازدياد الصادرات إلى أفريقيا وأمريكا الجنوبية إلا أنها لا تمثل سوى ٨٪.

ومن أجل تزويد المصانع ودعم نمو الصين السريع، تستورد البلاد مجموعة ضخمة ومتنوعة من السلع والمواد مثل النفط والحديد الخام والنحاس والحبوب. وأدى هذا الطلب على المواد الخام إلى ارتفاع أسعار السلع العالمية وتعزيز خزائن الدول النامية، حتى العام ٢٠١٥، الذي شهد انخفاضاً في الطلب الصيني انعكس على الأسعار.

وتشكل الدول الآسيوية ٣٠٪ من واردات الصين، والأوروبية ١٢٪ والأمريكية ٨٪، فيما تشكل أفريقيا وأستراليا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية ٥٠٪.

اليوان كعملة احتياطية عالمية

قبل عام ١٩٧٨ كان النظام المالي الصيني مركزي للغاية، انعكاساً للنظام الاقتصادي المخطط، وكانت تجمع الحكومة المركزية كل العائدات لتوزعها على الإدارة والمؤسسات العامة، وبالتوازي مع الإصلاحات المطبقة منذ عهد "دينغ جياو بينغ" (الجيل الثاني) بدأت الحكومة بتطبيق اللامركزية على النظام المالي، وفي العام ١٩٩٤ أطلقت الحكومة إصلاحات مالية جريئة من أجل مكافحة التراجع السريع في الناتج المحلي الإجمالي، الذي أضعف من قدرة الحكومة على تنفيذ سياسات الاقتصاد الكلي وإعادة التوزيع.

أطلقت الصين إصلاحات على النظام الضريبي واعتمدت خطة لتوزيع الضرائب، إلى جانب تلقي الحكومة لعائدات ضريبة القيمة المضافة وضريبة دخل الشركات والمؤسسات، وبالتالي ازداد ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي من ١٠,٨٪ عام ١٩٩٤ إلى ٢٢,٧٪ عام ٢٠١٣.

وتعتبر معظم ديون الحكومة الصينية بالعملة المحلية (اليوان) ومملوكة من قبل المؤسسات المحلية، كما أن الحكومة لديها في البنك الشعبي مدخرات نقدية تعادل ٦٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الوضع يحمي الاقتصاد الصيني من أزمات الديون. وكان الدين العام ١٥,٦٪ من الناتج المحلي عام ٢٠١٥.

تشير التوقعات الاقتصادية إلى استمرار نمو الاقتصاد الصيني، وتواصل الطلب المحلي بشكل مرن عبر نمو الواردات القوي في شهر كانون الثاني/يناير ٢٠١٨، وسط نشاط صناعي وتصديري يدفعه الطلب العالمي، إلى جانب تعزيز العملة "اليوان".

ورغم أن اليوان الصيني يمكن تحويله بحرية، إلا أنه يبقى منظم بصرامة ضمن ضوابط في حساب رأس المال، وقد أعربت السلطات الصينية عن رغبتها بتسهيل تحويل العملة والحسابات وتحرير أسعار الفائدة. وتقوم السلطات الصينية تدريجياً بتعزيز استخدام عملتها في الخارج لتصبح عملة احتياطية عالمية. ورغم أن العملية بعيدة عن الانتهاء إلا أن الصين رسخت مستوطنات تجارية مع دول مختارة وأطلقت سلسلة من اتفاقية تبادل العملات مع أكثر من ٢٠ بنكاً مركزياً.

أرقام للمقارنة:

عام ٢٠١٦
الولايات المتحدة
الصين
اليابان
ألمانيا
عدد السكان
٣٢٣ مليون
١٣٨٣ مليون
١٢٧ مليون
٨٢,٧ مليون
الناتج المحلي الإجمالي
١٨,٥٦٩ تريليون دولار
١١,٢١٢ تريليون دولار
٤٩٦٠ تريليون دولار
٣١٢٩ تريليون دولار
الناتج المحلي الإجمالي للفرد
٥٧,٤٣٦ دولار
٨,١٠٩ دولار
٣٩,٠٨٩ دولار
٣٧,٨١٧ دولار
نسبة البطالة
٤,٩٪
٤٪
٣,١٪
٦,١٪


تمكن النموذج الاقتصادي الصيني من انتشال مئات الملايين من الفقر ودفع النمو الاقتصادي والاجتماعي إلى أرقام قياسية، لكن يرافق هذا التطور العديد من التحديات مثل الاختلالات الاقتصادية الحادة وتزايد في عدم المساواة الاقتصادية والشيخوخة السكانية وتضرر البيئة، وهذه القضايا تواجه قيادة "شي جين بينغ" لمعالجتها من أجل ضمان استدامة الصين.

السؤال الأهم المتبقي هو: ما هي الدروس التي يمكننا تعلمها من هذه التجربة؟

نادر عازر