لهذه الأسباب نهضت أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا



كثرت في الآونة الأخيرة محاولات تفسير صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، بين يمين يرى "صحوة" أوروبية بيضاء ضد ما سببته سياسة الانفتاح الليبرالي على الهجرة، وضد ترويج الحكومات لـ "المجتمع متعدد الثقافات"، وبين ليبراليين يتباكون على ما يجري ويرون أن الشعب "الذي لا يعرف مصلحته" لم يعد يصدق ولا يستمع لـ "النخبة المستنيرة"، وبين يسار أوروبي مشتت في "سياسات الهوية" يرى بعضه أن صراعه الأساسي هو لون البشرة ومكافحة العنصرية والدفاع عن قضايا المثليين، ضارباً مصالح الطبقات الفقيرة والمهمشة بعرض الحائط.

تداخل الهجرة بالهوية والثقافة

يذكر بروفيسور علم الاجتماع في جامعة ستوكهولم "ينس ريدغرين" في مقال أكاديمي له أن قضايا الهجرة واللجوء هيمنت بشكل هائل على سياسة الأحزاب اليمينية المتطرفة ليس فقط في أوروبا الغربية، بل في دولها الشرقية أيضاً، خلال السنوات الأخيرة. وأن هذه القضايا كانت عامل جذب العديد من الناخبين إلى هذه الأحزاب التي أعربت عن رغبتها بإيقاف الهجرة نهائياً إلى دولها.

لكن وبحسب ريدغرين فإن المجتمع الأوروبي منفتح ونظامه معقد، لذلك فإن إيجاد تفسيرات واضحة أمر صعب، لكن أحد العوامل المهمة في زيادة شعبية أحزاب اليمين المتطرف، كان تشابك قضايا الهجرة واللجوء مع قضايا الثقافة والهوية والقيَم، لتأخذ مكاناً أكبر في الساحة السياسية على حساب الصراع السياسي التقليدي بين اليمين واليسار، ويكون الخوف على القيم الهوية الأوروبية، من المهاجرين، الفزاعة التي هرعت بالناخبين للارتماء في أحضان اليمين المتطرف، وكانت، أحياناً، أهم بالنسبة للناخب اليميني من عوامل الاقتصاد الاجتماعي، رغم أن سوء الحالة الاقتصادية تولد سخطاً كبيراً يتم التعبير عنه من خلال قضايا الثقافة والهوية.

ووفقاً لريدغرين فإن نظرة شاملة على وضع الناخبين في معظم الدول الأوروبية تظهر أن الذين يعادون المهاجرين، إما لم يرتفع عددهم، أو انخفض خلال العقود الأخيرة، وأنه بالرغم من رغبة العديد من الناخبين الأوروبيين تقييد الهجرة، إلا أنها لم تكن السبب الحاسم لكي يختاروا حزباً آخر، وأن قضايا الاقتصاد الاجتماعي ما زالت مهمة للكثيرين في تحديد مواقفهم، أي أن من صوت لليسار كان مع سياسة إعادة توزيع الاقتصاد، ومن صوّت للمحافظين أو الليبراليين كان مع سياسة خفض الضرائب.

إن صياغة الأحزاب اليمينية لسياستها كان أمراً حاسماً لها، وفقاً لريدغرين، وبالنسبة لهم فإن الفقر والتهميش الاجتماعي لم يكن تفسيراً مهماً لزيادة شعبيتهم، لأن أغلب المفقرين والمهمشين هم من الذين لا يصوتون نهائياً، ومن المهاجرين الذين يصوتون بنسبة أقل لهذه الأحزاب.

خيبة أمل الطبقة العاملة

عامل مهم آخر، بحسب ريدغرين، في زيادة شعبية اليمين المتطرف كان خيبة أمل الطبقة العاملة من عدم تحسن وضعها المادي مع الوقت، وتعبيرها عن هذه الخيبة بطرق مختلفة، بدل أن تطالب بزيادة المساواة الاقتصادية في المجتمع، لأن هذا الأمر يعني بالنسبة لهم التضامن مع الفقراء والمهمشين، وبالتالي مع المهاجرين، كما قد يؤدي تضامنهم إلى زيادة في الضرائب.

وهكذا عبرّ جزء من الطبقة العاملة عن غضبه إما ضد النخبة السياسية، أو عبر إلقاء اللوم على المهاجرين والأقليات العرقية التي "تنافسهم على مواردهم الاقتصادية".

المكانة الاجتماعية والمستوى التعليمي

بحسب ريدغرين فإن سبب آخر لزيادة شعبية اليمين المتطرف هو هبوط منزلة الأوروبيين الاجتماعية، مقارنة بأمثالهم في المجتمع، أي أن مكانتهم يجب أن تكون دوماً أفضل من المهاجرين أو السود مثلاً. وبالنسبة للرجال كان هبوطاً لمكانتهم مقارنة بالنساء، وهذا التهديد أدى بهذه الفئات إلى دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة.

يشير البروفيسور السويدي إلى أن المستوى التعليمي، كان له دوراً واضحاً أكثر من الاقتصادي، لأنه وفقاً للإحصاءات فإن أكثرية ناخبي اليمين المتطرف هم الأقل تعليماً، ويعود السبب لأن الدراسة ورأس المال الثقافي تعطي منزلة عالية للشخص في المجتمع الحالي، إلى جانب المعيشة في عواصم الثقافة العالمية، ما يؤدي إلى نمو استياء ضد هذه النخبة المتعلمة والنافذة إلى سلطات القرار من قبل الناخبين الذين لم يحققوا هذا المستوى ويرون أنهم مستضعفين ثقافياً، إلى جانب "الصراع الخفي" بين سُكّان الأرياف والمدن الصغيرة وبين سُكّان المدن الكبرى، أو ما يسمى الناس العاديون مقابل الطبقة والمؤسسة الحاكمة، حيث يملك، وبشكل عام، سكان الريف والمدن الصغرى، ثقة ضعيفة بالمؤسسات السياسية، ويميلون إلى أن يكونوا أقل تسامحاً مع المهاجرين والأقليات، وبالتالي فإن تعبئتهم من قبل الأحزاب العنصرية ضد المؤسسة الحاكمة ليس بالأمر الصعب.

كما أن مستوى التعليم يحدد نوع الصحف والوسائل الإعلامية التي يستخدمها الشخص، ما يؤثر بشكل كبير في وعيه السياسي.

العولمة

سبب آخر لنمو أحزاب اليمين المتطرف، وجد مكاناً صغيراً في مقال ريدغرين، هو غياب سياسة اقتصادية وطنية مستقلة، نتيجة عولمة الاقتصاد، وإنشاء بنوك مركزية مستقلة، ووضع أهداف استقرار وتضخم دولي ثابت. وهذا أدى إلى زيادة التقارب بين الأحزاب المترسخة في البنية السياسية الأوروبية (محافظون واشتراكيون ديمقراطيون) وتسبب بتجمع العديد من الناخبين في الوسط وإلى جانب الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (المقتربة من اليمين أكثر من اليسار). أدى هذا التكتل إلى صعوبة إثارة حماس الناخبين ووسائل الإعلام، وبالتالي فإن البعد الاقتصادي الاجتماعي جرت إزاحته من الساحة السياسية، وأُفسح الطريق أمام قضايا الثقافة الاجتماعية التي تخلق بسهولة صراعات بين أفراد المجتمع.

من ناحية أخرى، ترى الكاتبة والمؤرخة السويدية Åsa Linderborg في مقال لها أن الأسباب الرئيسية لصعود اليمين المتطرف في أوروبا تعود إلى العولمة والسوق الليبرالي، بشكل أساسي، يليه تدهور الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي فقدت ثقة الناس بها وتخلّت عن جذورها الطبقية واتجهت نحو اليمين، وأخيراً تركيز اليسار على سياسات الهوية كان له أثراً في تشتت الصراع الطبقي.

وحول نجاح ترامب في أمريكا تشير ليندربوري إلى أنه لا يجب إلقاء اللوم على "الرجال البيض الغاضبين"، فهم لجأوا إلى هذا الخيار لأنهم فقدوا ثقتهم بالنظام وبالمؤسسة الحاكمة، وإن كل ما يريدوه هو وظيفة وحماية اجتماعية، مؤكدة أن العدو المشترك هو الرأسمالية والإمبريالية.

قوقعة الليبراليين

إن ما يحدث الآن من صعود لليمين المتطرف حذّر منه اليساريون والماركسيون منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي ومنذ ازدهار الليبرالية الجديدة، كما تشير ليندربوري، لكن رغم ذلك فإن كل نتيجة انتخابات في أي بلد متقدم، كانت تصدم الليبراليين وكأنهم يعيشون في قوقعة معتقدين بأن كل شيء يسير على ما يرام، حتى أزمة 2008 المالية لم تجعلهم يَشكّون ولو للحظة بما تسببته سياساتهم.

وتقارن ليندربوري ما يحدث الآن بما جرى مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وقبل الحرب العالمية الثانية، من ناحية الفجوة الكبيرة في الدخل بين الأغنياء والفقراء، مُذَكِّرة بأن الإجراءات الليبرالية للمؤسسة الحاكمة لم تنفع في علاج الظلم الاقتصادي الموجود، وسط استمرار خصخصة الحقوق الاجتماعية وضرب الطبقة العاملة والتجاهل الأعمى للأزمة، دون الاستماع للناس أو إيجاد حلول للظلم والمشاكل الاجتماعية التي أوجدوها، حتى هتلر تعجّب من رفض النخبة ورجال الأعمال تلبية ولو مطلب واحد من مطالب الطبقة العاملة، وهنا رأى فرصته.

ورغم الأعداد الهائلة من الكتب والأفلام التي تتحدث عن فظاعات الحرب العالمية الثانية، وما فعله هتلر، لكنه لم يتم حقيقة البحث عن أسباب صعود النازية والفاشية، وكما تؤكد ليندربوري فإنه من الصعب فهم أسباب حدوث الحرب العالمية الثانية دون استيعاب الأزمة الليبرالية، التي تُفضل النخب فيها على الاستثمار باليمين المتطرف بدل التعاون مع الحركة العمالية.

وعودة إلى وقتنا الحاضر فإن عدم وجود نقد ذاتي لدى الليبراليين يجعل من المستحيل وصولهم إلى حل، ويمنعهم من فهم سبب صعود اليمين المتطرف والشعبوي، وحتى رؤية العلاقة بين الحروب الأمريكية الاستعمارية في الشرق الأوسط والإنهيار الجاري في منطقتنا.

سياسات الهوية

وفقاً لليندربوري فإن السبب الثالث الذي لعب دوراً مهماً في صعود اليمين المتطرف وتشتيت الطبقة العاملة هو تركيز الأحزاب اليسارية والنشطاء على سياسات الهوية كالنسويّة والدفاع عن حقوق المثليين والأقليات العرقية والقضايا القومية ومعاداة العنصرية، ووضعها كالصراع الوحيد الذي تناضل من أجله، أدى إلى تقسيم الطبقة العاملة، بدل التركيز على الصراع الطبقي، الذي سيحل كل هذه القضايا الأصغر منه، ويجمع الطبقة العاملة دون أن يفرقها، مع التأكيد على مساواة جميع البشر.

خاتمة

بين مواضيع الهجرة والهوية ومستوى التعليم والاقتصاد، فإنه هناك أسباب تحتاج إلى تسليط ضوء أكثر كالهيمنة الفكرية عبر وسائل الإعلام والإنتاج المرئي بكافة أشكاله حتى في الألعاب الإلكترونية، التي تشتت الناس وتلهيهم عن معرفة جذور مشاكلهم الأصلية، وحتى المناهج التعليمية المصممة لنحت الناس كي يتناسبون مع المهن الموجودة في سوق العمل، وبالتالي تمنع الناس من التفكير النقدي وفهم ما يجري حولهم وتضع لهم الأثرياء كمُثُل عليا عليهم السعي للوصول إليها.

جدير بالذكر أيضاً الهيمنة الغربية على بلادنا وحروبها المباشرة وغير المباشرة، ووقوفهم مع المستبدين ومحاربتهم لكل محاولة استقلال وتحرر وبناء حقيقي لمجتمعاتنا، ما تسبب بتوليد تربة خصبة صعدت فيها التنظيمات المتطرفة، التي تشوه صورتنا وتحرق وتُدمِّر كل شيء، عدا العدو الحقيقي لبلادنا.

نادر عازر