اللجنة الدستورية السورية: ممر إجباري بعد رهانات فاشلة


مع انطلاق أعمال اللجنة الدستورية السورية في ٣٠ تشرين الأول ٢٠١٩، سال الكثير من الحبر وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بنقاشات محتدمة ومعارك افتراضية، هيمن عليها أطراف تهاجم العملية برمّتها وتخوِّن المشاركين، تبعتها موجة متشائمة سادت في الجو العام. لكن هل كانت هذه اللجنة ستكون من الأساس بهذا الشكل، وفي جنيف، لولا الرهانات الفاشلة للأطراف الداعية للعنف عند السلطة والمعارضة؟

لم يكتفِ الراغبون بالحسم العسكري، بتخوين المخالفين بالرأي وحتىَّ جميع المشاركين باللجنة الدستورية، بل ألقوا اللوم، في حالة المعارضة، على ضعف ارتهان المعارضة المسلحة، وأنَّ تبعيتهم لم تكن بما يكفي، وأنَّ تعدُّد ولاءاتهم ومصالحهم الشخصية، أضاعت فرص أسموها بالتاريخية بين عامي ٢٠١٢ و ٢٠١٥، لإسقاط السلطة بقوِّة الخارج العسكرية. وفي حالة الموالاة ألقي اللوم على أن عمليات السحق والتدمير، والاستعانة بالخارج أيضاً، لم تكن بما يكفي لنسف الطرف المعارض عن بكرة أبيه، وكل ما يحيط به من مدنيين ومرافق ومستشفيات ومدارس.

بالنسبة للمعارضة السلمية السورية، كان يبدو بديهياً، أنَّ لجوء العديد من أطراف الأزمة، في السلطة والمعارضة، إلى العنف وحمل السلاح والحل العسكري، سيجبرها على الاستعانة بالخارج الإقليمي والدولي لحسم المعركة لصالحها، وأنَّ ذلك سيُفلت قرارهم من أيديهم، ويجعلهم ألعوبة للغير، ويرهن كل تحركاتهم وخياراتهم بضوء أخضر ممن حماهم ورعاهم.

ذلك أدَّى إلى فتح أبواب البلاد على مصراعيها لهيمنة القوى الخارجية، وتحكُّمها بكل شيء، تقريباً، وفرضها شروطها لحماية مكتسباتها ومصالحها، واستثمار الحرب السورية في تجربة أسلحتها وخوض معاركها الهجينة وانتقاماتها، واستخدامها في دعاياتها الانتخابية الداخلية، وأخذ حصة، تمكِّنها من الاستفادة من إعادة الإعمار وما يرافقه في مرحلة ما بعد الحل السياسي.

وسط هذه الأقلمة والتدويل للأزمة السورية، باتت توافقات القوى الدولية المتدخِّلة شرطاً إلزامياً قبل انطلاق العملية السياسية برعايتها، التي أصبحت الطريق الوحيد لحل الأزمة. هذا ما فرض على الأطراف المؤيِّدة للعنف إلى الانصياع، وتغيير صيغة الحل من عسكري إلى سياسي.

اللجنة الدستورية السورية ليست حلّاً مُنزَلاً ولا نتيجتها محسومة، ولا يعلم أحد متى وكيف ستنتهي، وقد تكون ناجحة أو غير ناجحة. لكن كواقع، فإن هذا هو المتوفر من خيارات يمكن سياسياً العمل على إدارتها، على أساس القرارات الدولية المتعلقة للخروج بأفضل نتيجة ممكنة، بعد أن أوصلتنا رهانات العنف إلى هنا، وحشرتنا، كمعارضة سلمية، في زاوية التفاوض برعاية دولية، بدل أن تكون سورية-سورية من البداية.

الآن، لا يوجد طريق آخر متوفر لتجاوز الأزمة السورية ولعملية التغيير الديمقراطي. عدا ذلك ستدخل البلاد في مرحلة مجهولة لا أحد يعلم إلى أين ستؤدي.

إنَّ جلوس ممثل المعارضة والحكومة السورية (أو الوفد المدعوم منها كما أسمته السلطة الحاكمة في السورية مؤخراً، وهي صفة تخالف نص اتفاق اعلان ولادة اللجنة الدستورية الذي أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة في ٢٣ أيلول ٢٠١٩ بوصفه ناتجاً عن "اتفاق بين الحكومة السورية وهيئة المفاوضات السورية") على نفس الطاولة لا يفصلهما سوى المبعوث الأممي، ويقابلهم كل أعضاء اللجنة الدستورية تحت سقف واحد، هي خطوة، لا يمكن التهليل لها ولا تقديسها، لكنها غير مسبوقة نحو الأمام.

على الأغلب، سيكون طريق الحل السوري طويلاً وشاقاً، وسيأخذ معه وقتاً وجهداً وحتى دماءً بريئة ريثما تستقر البلاد وتقف على قدميها من جديد.

بالنسبة لنا كماركسيين متموضعين في المعارضة السلمية الوطنية، فإنَّ مهماتنا المطلوبة وخياراتنا الاستراتيجية كما يراها الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) يجب أن تكون، الآن وأيضاً في مرحلة ما بعد انجاز التسوية السياسية، مرتكزة على مكافحة هيمنة القوى الإقليمية والدولية واخراج كافة القوات العسكرية النظامية وغير النظامية غير السورية من سوريا والغاء كافة الاتفاقات المتعلقة باعطاء بعضها قواعد عسكرية، والعمل على مهام وطنية وديمقراطية واقتصادية واجتماعية وتحديثية، وأن تكون تحالفاتنا وتلاقياتنا، وكذلك افتراقاتنا، مع الآخرين وفقاً لهذه المهام.

الذي زاد من شلال الدماء والمآسي والدمار في سوريا هو ارتهان أطراف العنف في السلطة والمعارضة للخارج، لكنه أدى بعد فشل هذه الأطراف في النهاية إلى اعترافها، متأخرة جداً، بأنَّ الحل سياسي وليس عسكري، وهذا ما كنا ننادي به كمعارضة سلمية منذ العام ٢٠١١.

نادر عازر